قصة قصيرة رائعة جدا للاديب رعد الامارة /العراق
قصة (جذور )
مضتْ بضع دقائق لعينة منذ أن استيقظتُ من نومي، وعندما فكرت بأن نهاري هذا سيكون مملاً وعادياً كسابقه،سَحبتُ الغطاء حتى رأسي وقررتُ البقاء في الفراش، كان ثمة سكون عجيب يخيم على الدار، لاصوت مكنسة كهربائية، لا صنابير مياه تُفتح وتُغلق، ولا حتى صوت خُفّي أمي ،وهي تجرهما خلفها في رواحها ومجيئها المعتاد مابين المطبخ والغرف والحمام:
_عجيب !هذا الأمر لم يحدث منذ سنين، أنا أفتقد حركة أمي الصباحية الدائبة. نضوت عني الغطاء، لكن عينيّ ظلتا تحدّقان في السقف وهما ترمشان بلا هدف. قَررتُ النهوض، لكني تركت الأمر لقدميّ، أنزلتُ الأولى، بقيت الوّح بها من طرف السرير، لحظات ثم دَفعتُ بالأخرى، وقفت ببيجامة النوم وقد أصبحتُ خارج السرير، لم أكن أشعر بالجوع، بقدر ماكنت أشعر بخواء عجيب، وفكرتُ بأن حماماً بارداً سيقضي حتماً على هذا الخمول . ملأ جسدي فراغ باب المطبخ، كل شيء مرتب ونظيف، أدوات الطبخ في مكانها،واضح أنها لم تستعمل، وبرّاد الشاي في مكانه المعهود أيضاً:
_ قد تكون ما زالت نائمة، لكن هذا لم يحدث سابقاً، ليس أمي بأي حالٍ من الأحوال. هززتُ كتفي وانا أمشي صوب غرفة نومها ، عند الباب تَسمرّتْ قدمي، همستُ مع نفسي :
-لماذا لا اتركها نائمة؟ لست جائعة ،ثم أني لا استسيغ الشاي كثيراً، سأتركها ترتاح قليلاً ريثما أستحم. هممت بالالتفاف لكني سرعان ما توقفت:
_ما هذه السخافة يابنت؟ قد تكون مريضة. هكذا قلت لنفسي، ثم دفعت باب غرفة النوم ودخلت. كان مصباح النور الأزرق يرسم أشباحاً للأشياء على الجدران الملساء، وهناك غير بعيد عنها حينما حدّقت، كان شعر أمي الأشقر الشائب منسدلاً على الوسادة،فيما كانت عينيها الجاحظتين تحدّقان في سقف الغرفة بدهشة. جلست عند طرف السرير، وقد تجمدت عيناي في الشعر المنسدل، مازالت ساقها دافئة، دنوت قليلاً، تحسستُ أصابعها المتشابكة ، ما عدا ذلك لم أفعل أي شيء آخر ، كنت مندهشة ومنذهلة من منظر الموت الذي سكب هدوءاً عجيباً على ملامحها ، لم أبك أو تند عني أي صرخة!
_أحقاً لن تستيقظ أمي بعد الآن!؟أحقاً هي ميتة؟ قد تكون مريضة جداً. وضعتُ يدي المرتعشة قريباً من قلبها، لكني سرعان ما سحبتها وقد زاغت عيني،وددت لو حَصلتُ على بعض الضجيج، هذا الهدوء بدأ يخيفني ، لكن ماذا عساي أن أفعل، هل أصرخ مثلاً، ومن سيسمعني !؟الجيران! أنا لاأعرف أن كان ثمة جيران بالقرب حتى! أخيراً أضحيتُ يتيمة، وحيدة، تباً للدموع المتحجرة مابالها تلاشتْ! بمن أتصّل !؟أن رأسي بات يؤلمني، هذا الصداع المخيف الذي يضرب صدغي بمطارقه، ليس من أحد اعرفه، سوى بعض الصديقات والأصدقاء، أنهم كل مالدي، رفاق الليل ،والدراسة! وعمٌ وعمة، لكنهما يقطنان في كندا منذ سنوات عدة، ماذا أفعل ياربي! أخذت اذرع الغرفة جيئة وذهاباً:
_ الصداع لايحتمل، لا أعرف حتى كيف أعدُّ القهوة، لطالما اعتمدتُ عليك يا ماما!. كنت أجلس في غرفتي،لقد مضتْ شهور عديدة مذ رحلتْ أمي، أخذت أطلي فمي بأحمر الشفاه، المرآة لاتكذب، ثمة هالات سود قد أحاطت بعيني ، السبب واضح ، السهر لوقت متأخر، التدخين، ثم كؤوس الخمر المترعة باللذة، لقد رحل صمّام الأمان!لم يعد ثمة قيد، وأن وجد فهو نظرات الجيران الفضولية التي بدأت تصطادني أثناء خروجي وحين عودتي:
_ الأوغاد ماذا يريدون مني، أما يكفيهم أني أصبحت يتيمة؟ على الأقل أنا لا اصطحب الرجال كما تفعل بعض النساء، ثم أني مازلت عذراء،فقط قبلات يتيمة من بعضهم واحضان بائسة، ماعدا ذلك فأنا نفسها البنت ذات الملامح الميتة، والتي لم تغادر الصدمة ملامح وجهها بعد. انتهيت من طلاء شفتي، تأملت نفسي، غامت عيني وأنا أحدّق في نقطة وهمية في منتصف المرآة، أخذت اطرق بأصابعي حافة طاولة الزينة، كنت افعل ذلك بتوتر واضح، وأنا أهمس لنفسي :
-وماذا بعد،هل هذه هي الحياة التي أريدها!؟نوم في النهار، سهر في الليل. وقع بصري على بعض الكتب، والمحاضرات الدراسية المركونة في إحدى زوايا الغرفة، والتي علاها الغبار ،قطبت جبيني :
-لا، لقد فات الأوان، لم يعد ثمة مايجذبني للدراسة، السفر قد يكون أفضل،تباً، لو كان لي جذور طيبة هنا، لتشبثت بها! لكن آه، أنا مفعمة بالوحدة. كان المطار يعجُّ بشتى أنواع البشر،انتابني شعور وأنا اتنهد بأن بعضهم حتماً سيعود، أما الآخرين فقد تكون هذه رحلتهم الأخيرة، مثلي ربما، وضعتُ يدي على خدي، الأنتظار ممل، ككل شيء ، لكن قد تتغير حياتي هناك في كندا، من يدري. (انتهى الجزء الأول /يتبع)
بقلم / رعد الإمارة /العراق
Commentaires
Enregistrer un commentaire