قصة رائعة من روائع الاديب رعد الإمارة /العراق
قصة (صاحب الظل الطويل) الجزء الثاني والأخير
ظل واقفاً ينتظرها في الممر الفاصل بين المقاعد، انتبه لنفسه،همس:
_ تباً للغباء!. انحنى وأنزل الطفلة التي أخذت تمشي ببطء صوب أمها الشقراء، تأملهما للحظة، الله، كان منظر الأحتضان بينهما عذباً للغاية، رفع الحقيبة عالياً واودعها إحدى الخزانات، فسح لهما مجالاً قرب النافذة المتينة، قد تحب هي والطفلة الجلوس قرب النافذة هكذا فكر. أنحنت برأسها وهي تجلس في مقعدها، لفح أنفه شذا عبيرها الحلو، حدّقتْ به وقد علتْ ملامحها دهشة جعلتها تبدو كطفلة جميلة، قالت له :
-هل ستبقى واقفاً هكذا؟ اجلس، لاعليك المكان يسعنا كلنا والمقاعد فسيحة، أنظر -افردت يديها الأثنتين-. أخذ يتأمل الطفلة، كانت تعبث بالحاجز الذي يفصل مابين المقعدين، قال وهو يدير عينيه صوب المقاعد الأخرى ورؤوس المسافرين التي شغلتها :
-سأغيب دقيقة، لن اتأخر. لم ينتظر جواباً منها، سار مسرعاً صوب نهاية الممر. لم يغب طويلاً، أخذت تتأمله، كان يحمل بكلتا يديه عصائر وكيس مأكولات، ابتسمت له من بعيد، كانت فعلاً جائعة، حرّكتْ الطفلة رأسها يميناً وشمالاً ،ثم أخذت تصفع برفق علبة عصير البرتقال التي وضعها في حضنها، ناولها حصتها من الطعام واحتفظ بالباقي للأم التي تنهدت وهي تأخذ منه الكيس. قالت له :
-ألن تشاركنا الطعام؟ هيا كل معي ، سأشعر بالخجل إن تناولته لوحدي. راحت أصابعه تداعب رأس الطفلة برفق، رفعت هذه وجهها الصغير، ضحكتْ ثم عادت تأكل وقد امتلأ فمها بالطعام، شرد بأفكاره قليلاً، ايقظه صوتها وهي تمد يدها قريباً من وجهه :
-هاك شطيرة صغيرة، هيا،لاتكن عنيداً. أصدر القطار حركة ارتجت لها الأجساد، أمسك بيدها وبالشطيرة معاً !علا الصفير بالخارج، اهتزت العجلات وأفترقت الأصابع،
_ هل أجلب لكِ الشاي؟. قال هذا وهو يدسُّ سيجارة بين شفتيه، نظر لها،كانت تحدق في علبة الكبريت، أعاد السيجارة للعلبة ثم راح يداعب شعر الطفلة، همست له :
-ليس الآن، ربما فيما بعد. سمعته يهمس في إذن الطفلة، ضحكت الأخيرة حتى كادت تشرق بلقمتها،ربما قال لها نكتة، هكذا همست لنفسها وهي تتمنى لو اضحكها هي أيضاً! راح يتأمل صفحة وجهها ، كانت تتنهد وهي تحدق في الظلام، الذي كانت تقطعه الأنوار المتفرقة الخافتة مابين حين وآخر ،استدارت فجأة نحوه، أشاح بنظره للأمام، قالت له :
-لقد رأيتكْ وانتَ تنظر لي، في الزجاج العاكس هذا. أخذتْ تهزُّ رأسها بلطف وهي تبتسم، هز كتفيه وعاد يعبث بشعر الطفلة، فكرّتْ إنه بدا خجولاً أكثر من الأول! قالت وهي تقطب حاجبيها:
-هل تدري، لقد نسيت أن أسألك عن محطتك الأخيرة؟ وانتَ أيضا لم تسألني!. حدقا ببعضهما للحظات كادت تطول، انفجرا بالضحك الذي انتقل عدواه للطفلة، والتي كانت تفصل المقعدين بجسدها النحيل. كان لديه إحساس منذ البداية بأن محطتها الأخيرة تقع في أقصى الجنوب، أنه حدس كان يهبط عليه أحياناً،هذه المرة أصاب حدسه الغبي! شعر بالأسى، محطته لاتبعد كثيراً، ساعتان ونصف على الأرجح ، كان بوده أن يعرفها أكثر، أدرك بأن ليس لديه وقت كثير، تحامل على خجله وقال محاولاً النظر بثبات في عينيها :
-هل هذه الطفلة لكِ؟ أعني هل هي بنتك؟ - شعر بأن السؤال غبي فأحمر وجهه-. قاطعته والكلمات تنطلق من بين شفتيها كالرصاص - يبدو أنها كانت تنتظر هذه اللحظة- قالت وهي تجذب رأس الطفلة نحو حجرها :
-نعم، هذه طفلتي الشقراء، إنها الكائن الوحيد الذي يبعد عني الأسى! تعرف، أحياناً يدفعك كائن ضئيل مثل هذا للتضحية بنفسك، مستقبلك، حياتك!. آه، لم أود لهذا أن يحصل، إنها تكاد تبكي الآن، هكذا همس في داخله وهو يشيح بنظراته كالعادة، أدرك بأنه لايجب رؤية ضعفها. همست له وهي تجذب الطفلة أكثر إلى حجرها:
-أنا عائدة له - تنهدت بصوت مسموع-أعني طليقي، أنه يسكن هناك في أقصى الجنوب، لقد تم التفاهم مع أبي وانتهى الأمر، أنظر لبراءة الطفلة، أنا أفعل كل ذلك من أجلها فقط وليس من أجل التقاليد أو الأعراف، أما الحب - تحسرت طويلا ثم ضحكت-. أخذ يحدق في عينيها، للارتعاشة الواضحة تحت جفنيها، كيف لم ينتبه لذلك! كانت ملامح وجهها شبه ميتة، قال وهو يغالب الوجع الذي اخذ يعتصر قلبه :
-لاعليكِ، حتما ستمضي الأمور بسلام، بعض الحكايات تظل دوما بلا نهاية، أو تنتهي حتى قبل أن تبدأ. قال هذا وخفض بصره يعبث بأصابعه الحائرة،أضاف حين لم تنبس بحرف :
-أنتِ إنسانة رائعة، مؤكد ستخلقين السعادة لك ولهذه العصفورة الحلوة،وللآخرين أيضاً. قال هذا وقد أشرق وجهه فجأة، كانت تهز رأسها وهي تلاحق كلماته وتحاول الأبتسام قدر الإمكان، عندما ابتسمت أخيراً، كانت ابتسامتها تحتضر. كانت الطفلة قد نامت ، راح كليهما يعبثان بشعرها الأشقر، لكن رغماً عنهما احتكّتْ اصابعهما، حدقا في بعضهما، ارتعشتْ اجفانها للحظة، لكنها اشاحت بنظرها صوب النافذة، نهض واقفاً، عليه أن يتخذ قراره الآن! حدق في الطفلة، تخيلها كبيرة، تحتضن حقيبتها المدرسية وهي تجري في الدار ،تنبىء الجميع بنجاحها! حوّلَ نظره صوب بعض الرؤوس في المقاعد الأخرى، كان بعضهم يتهيأ للنزول، شعر بعجلات القطار وهي تحتك وتصبح ثقيلة، ودَّ لو صم أذنيه عن صفارته التي أصبحت كريهة الآن، همس لها بصوت خافت :
-إنها محطتي.
-أعرف، لست بحاجة لأن تخبرني. كانت ماتزال تنظر له من خلال النافذة، قالت :
-اريد منك خدمة، أنا ليس بوسعي النظر إليك، سأبكي هل تفهم!؟ - هز رأسه- اترك لي عنوانك، من يعلم ماذا يحصل!. قالت ذلك وأخذت تعبث بحقيبتها، مدّتْ له يدها بقصاصة صغيرة وقلم ذهبي اللون، أخذ يحدق في اليد الممدودة، شعر بأن عينيه قد اصبحتا ثقيلتان فجاة،وبأن ثمة مطارق عنيفة راحت تضرب في رأسه بعنف، تذكر بأنه لم يدخن سيجارة، أخذ الورقة والقلم، سَقطتْ يدها فوق جسد ابنتها الساكن، قال :
-هاكِ الورقة، فيها عنواني، لكن تذكري بأنك أجمل شيء حصل لي منذ سنين طويلة، لن أقول وداعاً. انحنى على الطفلة، قبلها طويلا، ظلّتْ تحدق في الزجاج البارد، شعرت بأنها تحتاج لطاقة عجيبة حتى تبعد عنها شبح البكاء، استدارت ببطء، كان يسير خلف بعض المسافرين الهابطين، راحت تحدق في ظهره شبه المحني، بمعطفه الذي جعله يبدو كرجل نبيل تعوّدَ مرارة الحياة. أغمضت عينيها، كان القطار قد بدأ بإطلاق صفارته المعتادة، التفتت لطفلتها الراقدة بسلام،ثم انتبهت للورقة المطوية تحت القلم الذهبي البراق، ابتسمت بضعف، مدت أصابعها، لكن الدهشة ملأت ملامح وجهها ،وهي تحدق بذهول في الورقة البيضاء الفارغة!!. (تمت، ملاحظة :جرت أحداث القصة في التسعينات، حيث لم يكن للجوالات من وجود حينها )
بقلم /رعد الإمارة /العراق/بغداد
Commentaires
Enregistrer un commentaire