إيثار أستاذ/الأديب أحمد علي صدقي

 




إيثار أستاذ!!! 

بعد أن ظفر الأستاذ بعقد عمل موسمي طلب المغادرة الطوعية و قرر ممارسة رياضة الركض فَجْر كل يوم الى أن يغادر البلد..

في هذا اليوم من أسبوعه الأول، ارتدى بدلته الرياضية و وضع كمامته على دقنه و خرج للركض.. في منتصف طريقه سمع أنفاس أحدهم تتناغم مع أنفاسه.. التفت فإذا هو شاب ملثم يتبعه.. تبعه مشيا.. زاد الأستاذ من سرعته.. جرى هذا خلفه.. بدأ الخوف يستولي عليه.. ضاقت أنفاسه اللاهثة المتلاحقة و اشتد اصطكاك أسنانه وارتجاف أوصاله من البرد والخوف.. بلغ شدة الإرهاق.. توقف، فإذا بيد الشاب تلتقف عنقه من وراء، ككماشة حديدية منعته عن التنفس.. تمنى أن يكون ما يقع مجرد كابوس. خضه الشاب قائلا:

- أخرج ما عندك بهدوء ولا تتكلم.. أخرج الأستاذ هاتفه من جيبه ومده للص الذي نهره قائلا:

- اخلع ساعتك.. أزال الأستاذ كمامته ليتنفس فإذا باللص يتعرف عليه.. إنه استاذه الأخير قبل مغادرته المدرسة..  يضع اللص يديه فوق رأسه متسائلا:

- يا الله. أأنت هذا يا أستاذ؟ أستسمح على ما قمت به اتجاه شخصكم.. سوى الاستاذ عنق بدلته الرياضية الذي كمشته يد اللص.. أزال هذا الأخير قلنسوته من على وجهه. تعرف عليه الأستاذ فقال له:

أأنت هذا يا ولدي؟ كيف تسقط في شباك مهنة غير قانونية قد تجرك للسجن. قال الشاب:

- اسقطني فيها الفقر، وسوء الإهتمام.. لقد قررت أن أجمع مالا و "أحرگ" بعد أن سدت شهادة الباكالوريا في وجهي كل أبواب الكسب.. قال الأستاذ:

- يا لشماتة البلد. الأمي فوق كرسي القرارات يتنعم بوظيفة و المتعلم يفكر في هجر البلد.. قال التلميذ:

- لا أنكر أستاذي الفاضل أن أقوالكم لا زالت ترن في أذني: الاجتهاد، العمل، المواطنة، الظمير، الحق.. كلمات رنانة لم أجد لها أثرا في معجم الواقع.. تنهد الأستاذ وقال:

- بلد التناقضات. فقر في بلد غني..

 قهقر التلميذ وهو ينظر للأستاذ.. تعثر بحجر.. سقط. مد إليه الأستاذ يده قائلا:

- قم ولا تكن من اسقاط الناس..  قال التلميذ:

- أراني أستاذي سقطت في كل شيء.. وأخطر سقوط هو أن يكون مسقط رأسي في هذا البلد الذي يحاربونك فيه بكل الوسائل حتى لا تكون بخير.. قال الأستاذ:

- رغم كل الإكراهات فلا يجب أن يدفعك هذا للسرقة.. أجابه التلميذ:

- لن أسايرك في فهمك أستاذي، والواقع صريح يكذبنا بحقيقة اغتالت حاضرنا ومستقبلنا..  كم تمنيت أستاذي أن أكون معلما مثلكم.. لكن تراجعت و قلت لا أنعم الله علي بها من مهنة.. سبورة تستقبلني كل صباح بلون أسود يلون بسواده لون أيامي، وطبشورة تمدني بفتاة غبارها طيلة اليوم، تقلل من قدرة تنفسي ولا تزيد إلا من حدة سعالي.. أجاب الأستاذ:

- هذه اكراهات نواجهها ولكن مهنة المعلم مهنة شريفة. أجابه التلميذ:

- أبواب موصدة ولا بصيص أمل.. كل الأبواب مغلقة في وجهنا نحن الشباب. وحده الباب المفتوح على مصراعيه في هذا البلد هو باب السرقة والتزوير. قال الأستاذ:

لا تبتئس يا إبني ولا تلج ميدانا يظم حثالة بقايا الناس.. أغرورقت عيناه دموعا:

- استاذي، أسرتي فقيرة جدا وكيف تريدني قرع أبواب مسدودة  وأمامي باب مفتوح على مصراعيه وهو باب السرقة والذي أصبح الباب الرسمي الذي يدخل منه الجميع وبرأس مرفوعة، ومن سد عليه، فمفتاحه فدية مال.. قال الأستاذ:

- لا. لا.. لن اسمح لك تلميذي أن تمتهن هذه المهنة الخبيثة.. أنا في انتظار عقد عمل سيأتيني بعد أيام.. وأعدك أنني سأهديه لك وستذهب للخارج في الطائرة وليس في قارب موت.. سأجهزك للسفر وسأسهر على توظيفك كما سهرت على تعليمك..

رن هاتف الأستاذ بجيب التلميذ.. ناوله إياه.

كان الخبر محزنا.. قارب مهاجرين غرق، ومات ركابه جميعهم. 

بكى الأستاذ كمدا لمصير شباب لا مستقبل له.. وبكى التلميذ فرحا لِمَا انتهى إليه أمره، وقد أفرحه من يوثر على نفسه في كل شيء ولو كانت به خصاصة...

أحمد علي صدقي/المغرب

Commentaires

Articles les plus consultés