إضاءة نقدية /د.عبدالرزاق كيلو ...سوريا






3............................. إضاءة نقدية حول قصيدة 
                                        ( طوابير الخطايا المقدسة )
                                              للشاعرة السورية
                                         " فينيق علياعيسى " 
                                                (3/3)
تتابع الشاعرة " فينيق علياعيسى" الرسم بالكلمات ناقلة لنا ألوان عواطفها و مشاعرها الأنثوية ، مدركة تلك الفروق الصارمة بين الألوان الغامقة و الألوان الفاتحة موضحة لنا أن الخيال يستطيع تصوير الأشياء أكثر مما تكون في الواقع الذي تنيره الشمس... و يعرج بها الحب إلى المثل الأعلى للمتعة المتخيلة ، عندما تنطلق من عنفوان طوابير الأشواق و الأمنيات الجاثية في باطنها اللاشعوري... فينقلها شعورها الخارجي الأنثوي البسيط إلى عمق أدغال الأحاسيس و المشاعر الفياضة بالجمال. 
فهي تراود أفكارها وسط غابة مشاعرها المزدانة بألوان الطبيعة الخلابة ليكتمل التمتع الجمالي بالشعر ، يحدوها الحزن المضمر في حنايا صدرها...! و ليس عيبا في الشاعر ذي الإحساس الجمالي السليم أن يتمتع في خياله بما هو فقير بإحساسه في الواقع ...! فيتخلله المتعة الجمالية الحسية بما توفره الكلمات و الصور من ألوان هذه المتعة التي لا تمل النفس من جمالها. 
فالمعاني و الأفكار المجسدة عبر الصور الشعرية البلاغية هنا: 
( تفترش بأكفان القضبان _ مزمورا للعطش _ تحطيب الأيام _ تترنح أنوثتي _   مواقد الملح _ ثقوب الإنتظار _ تصفر في شغافي ريحا يوسفية )
تبدو أجمل و أجل و أعظم من معانيها الواقعية الفظة.... و كأن الشاعرة تقول: إن هذه الطوابير من الخطايا المقدسة _ التي تترنح داخل إطار مشاعرها و أحاسيسها ترنح الموسيقى الصوتية الصامتة _ يجب تطهيرها و تزيينها كي تصبح كريمة. 
إنه مبدأ التطهير الذاتي عبر مزامير العطش و النار المقدسة في مواقد الملح  
سجنٌ قضبانه تعترشني بأكفان الإفصاح؟؟
 أ تومئ لشفتيّ ..
 أنّكَ مائي!؟ 
 بينما بعيدا.. 
تترنّح انوثتي.. 
مزموراً للعطش!  
مزمورا شاغله تحطيب الأيام ..
 لمواقد الملح، 
حتّامَ تغزوني بكَ ثقوبُ الانتظار !؟ 
وتصفِرُ في شغافي ريحا يوسفية ! 
هاكني .. 
يشحُّ لوني من تيممي للتهجد  ..
 أتوحدُ بمفاتن صياميَ عنك مخضلة..  
حين تتلُو عليّ ابتعادك بردةَ نارٍ!  
فتبرأ وحدتي و أكونكَ ربّة ماء..
كليمةً بلعناتِ التراب.  

و كما أسلفنا سابقا.. أن الشعر الرمزي يجرد حقائق يبدو في غضونها النص الشعري مجموعة من المعاني التي تسمو على الواقع بما يتناسب مع الموضوع الكلي للقصيدة و الغرض منها... مما لا يتجاسر الشاعر أو الشاعرة الافصاح به في الحقيقة... يقوى على الكشف عنه خيالا و رمزا.. و بغض النظر 
عن الدوافع و الهواجس الداخلية في نفس الأنثى الشاعرة 
نجد هنا استغراق الموضوع بالمحمول( و العكس صحيح) منطقا و فلسفة عندما غاصت الشاعرة في عمق أحاسيس الأنثى.. و تجاوزت فيه حجاب الحياء المرضي... و حققت جوهر أنوثتها كأسمى و أروع مما نجده في الواقع.  
و نلاحظ في هذا المقطع أخذت القصيدة شكلا شاقوليا محققة النسبية القياسية بين عواطفها و أحاسيسها و بين عواطف و مشاعر المتلقي... تماما... كعميلة الإسقاط الشاقولي 
و هذا المنحى الشاقولي أكسب القصيدة بعدا استراتيجيا و نفسيا بين الأنا الأعلى و الأدنى... بين الروح و الجسد... بين الخيال و الواقع... و لهذا يحق للشاعرة التباهي باستطاعتها قذف حجرها شاقوليا محققا مدى بعيدا يستحيل تحققه إلا بأمر خارق للعادة. 
و قد استطاعت القفز ما وراء الطبيعة محولة الساكن إلى متحرك و الممكن إلى متحول بتضمينها " الريح اليوسفية " في قالب عباراتها و ألفاظها.. مجملة الصورة بارتقاء روحي في الحب حيث تتحول الرغبة إلى طهارة مقدسة تخضل بها مشاعرها تذكرنا بقصة الخلق الأول " آدم و حواء" و حاجة كل منهما للآخر ... و ما قولها " ربة ماء " إلا كناية عن قصة الإغراء الأنثوي الأول_ إغراء حواء لآدم _  بعد استواء خلق الذكر و الأنثى .
نعم... هذه الريح اليوسفية... التي استشف الغيب محركة عواطف يعقوب النبي باتجاه ابنه يوسف الصديق...ما يشبهها تكتنف لواعج صدر الشاعرة و يثير مشاعرها الأنثوية عندما تتسلل ريح الحبيب من ثقوب انتظارها الطويل إلى حنايا نفسها محركة جسدها المخضل بالرغبة محولة جذوة نارها إلى براكين من النيران سرعان ما تخمد بتجلي آدم و حواء 
و تكتمل الصورة الفنية هنا عندما تشخص الشاعرة ذلك النزوع النفسي في كل طرف منهما نحو الآخر بما يشبه لعنة التراب... و هو معنى أجادت الشاعرة في ابتكاره و رسمه بكلماتها و ألفاظها التي استوت على سوقها و نضجت كثمار غير ممنوعة و لا مقطوعة. 
ثم تتحول الشاعرة في خطابها الشعري مستبطنة ذاتها كأنثى تخاطبها: 

أيّها المتصحرةُ دونه....! 
 يلفحني.. 
ربيعكُ الطارئ ..
ويسجدُ  عند ضفاف خصري حشيشُ عشاقٍ ..
محظور!
 ينمو تحت أضلعي غابةَ شوكٍ.. 
تنذرُ رئتيّ مباخرَ لريحانك.. 
 وحول سرتي ..
ألفُ نبيّ يتعمّدون .. 
يؤذنون ..
 يشعلون بسجايا *انوثتي
 نيرفانا العناق.. 
 وتتوحدُ بتطرفي إليك ..
جهاتٌ 
تبايع شفاهي
 بلادا آمنة الخطايا......

فلا شك ... أن الشاعرة هنا... تحافظ على وجودها الإنساني الأنثوي.. و ربما عدم تملكها الحقيقي لأنوثتها و هي في أوج
عنفوانها يدفعها إلى أن ترى نفسها آلهة للحب و الجمال _ بالمعنى الأسطوري _ ففكرة القوى الأنثوية عند الإنسان البدائي التي هيجت عواطفه و جعلته أشد انجذابا لها.. تعود الشاعرة بوصفها بالألفاظ المقترنة بعظمة الأفكار الخارقة للنفس و الخيال... و ربما وقف فيها المرء عاجزا راغما لمفاتنها  
في كثير من الأحيان...! 
فالأنثى ....ظاهرة كونية جبارة أمام الرجل مثلها مثل الصواعق و العواصف و الرعد و البرق و المطر... و لهذا تبقى في نظره صاحبة الجلالة المتربعة على عرش الجمال الكوني بين جميع الظواهر الكونية الأخرى التي تشير إلى صفة الجليل...! و من هذا المنطلق أكد لنا الفيلسوف اليوناني القديم
" لونجينوس" أن الظواهر الجليلة تلك التي تستعصي على المرء بحيث يظهر أمامها ضعيفا غير قادر على تملكها كما يملك الأشياء( الجمال و الجلال... المرعي ص 96 ) 
فسجايا الأنوثة تنحسر عن أعظم الظاهرات جمالا و جلالا في الوجود البشري... و دائما الحديث عن هذه السجايا يولد في النفس لذة ممتزجة بشيء من الرهبة و محفوفة بدهشة العقل و الروح و شعورا بالقداسة غير العادية. 
و من هنا... تمنح الشاعرة هذه السجايا الأنثوية صفة الوجود المطلق لا يدركها الفناء تتجدد من زمن إلى آخر... محملة إياها قوة البأس و المقاومة التي تقف في وجه الطبيعة و هي تسمو بها سحرا و جمالا... تقول:
  
أيّها المتصحرةُ دونه....! 
 يلفحني.. 
ربيعكُ الطارئ ..

نلاحظ هنا.... إثارة الشاعرة لرغبتنا و دهشتنا ضمن حركة درامية في السياق الشعري... هذه الحركة عبارة عن مزيج من الأحاسيس و العواطف التي تعبر عن الشعور الأساسي بالجمال في منعطفات العلاقة الحسية بين الذكر و الأنثى...
إنها تشبه الموسيقى التي تعلو و تنخفض التي توحد بين الموضوع و الذات و التمتع بالجليل... و ما قول الشاعرة: 
" أيها المتصحرة دونه " إلا استدراكا لهذه المتعة مع الشعور بالعظمة المتزايدة... نعم ... تستدرك من خلالها اللون الأخضر  _ و هو تعبير عن الرغبة و الميل نحو المتعة و اللذة _ الذي يوحد بين فيض وجدها مع موضوعه..! 
فهي تدور حديثها شاقوليا ضمن اتجاه ذاتي تفوق فيه رمزية الفكرة شكلها في قالبها التعبيري المتجسدة فيه... فبتصويرها نفسها العطشى إلى اللون الأخضر المبتهج بالجمال أقوى بمعناه من موضوعها اللفظي القياسي المكاني و الزماني الذي ترمز إليه بالضمير المتحرك المتصل بالظرفية( دونه ) ثم باستدراكها هذا العذاب المتعطش بقولها( يلفحني ربيعك الطارئ ) فهي تنفي القبح منتصرة على طبيعة " التصحر " 
بفكرة إيحائية مدهشة تملك بها مجامع نفس المتلقي و إحساسه العارم بجمالية الفكرة و الصورة نافية عن الحب أي مفهوم سيء على طريقة المجاز الذي يحول موضوع الفكرة و جمالها إلى إحساس ملموس... و ما الربيع الذي( يلفح) أو لفحها بمفهومها الشعري إلا تعبيرا عن قوة ذاتها في التصدي لكل إحساس منفر أو مشوه للجمال كالجنة المشوهة..! و لهذا تؤكد إصرارها على تأييد ذاتها الأنثوية مفجرة كما و نوعا حدود التوافق بين واقعها الأنثوي و المثل الأعلى للجمال متفوقا على القبح... و هي تحس بارتفاع ذاتها عن مكونها الأرضي إلى خارج حدود الطبيعة الأنثوية محاولة الإحاطة بالمعنى الجليل لقدسية الرغبات أو الخطايا المقدسة عابرة بالتالي حدود الجسد إلى معالم السجايا الأنثوية ذي السطوة و الجبروت عازفة على الشعور الأخضر المعوشب في فردوس النفس المسيجة و المحظورة بالعزة و الكبرياء ... هنا تؤكد على الأثر النفسي الانفعالي المرتبطة بالهيبة من ارتفاع منزلة العفة... فاللفظ " محظورا " حزم المعنى و جلاه في ذهن  المتلقي ... استطاعت من خلاله الشاعرة رسم صورة جليلة لسجاياها الأنثوية و هي محصورة ضمن قانون الحظر الأخلاقي و الروحي... فهي تكتفي برائحة المباخر في لحظات تفور بها الرغبة الجامحة... و تمور فيها رياح الشوق و الحنين مورا...! توحي بحيويتها و انفعالها. 
ثم تنتقل من حالة التقرير و التهويل إلى حالة إثارة الرغبة التي تعانق قضبان الحظر الذاتي التي حجرت فيها تلك الرغبات و الخطايا فتقول:

وحول سرتي ..
ألفُ نبيّ يتعمّدون .. 
يؤذنون ..
 يشعلون بسجايا *انوثتي
 نيرفانا العناق.. 
 وتتوحدُ بتطرفي إليك ..
جهاتٌ 
تبايع شفاهي
 بلادا آمنة الخطايا...... 

و ناهيك ما للسرة من أهمية مركزية في الجسد... إن لهذا المكان الطبيعي بالنسبة لجسد الأنثى المشرق بالجمال و ببدعة الخالق المصور فاعليته في الغزل... و له نغمة صارخة توحي بالحيوية مثيرة نشاط الإحساس و المشاعر. 
فهي توظف هذه الفكرة توظيفا جماليا مشرقا بالصبابة و الشوق من أجل تأكيد إصرارها على العفة جاعلة من ذاتها سببا في إشاعة التعمد و الأذان و هما من الشعائر الدينية المعروفة راسمة  في الخيال صورة لوحة صوفية في نطاق المعنى رغم اهتزاز خيال المتلقي لمفاتنها الأنثوية و تأمله لربوع جسدها حول السرة.. و كأن السجايا الأنثوية تتحول من رمز " السرة" إلى روضة غناء تعج فيها رائحة الطل و الأزهار اتصلت بها ريح الصبا.... تزيد مباخر الجسد اشتعالا و حيوية و تبرز كآلهة للحب و الجمال... مندفعة للعناق تحيط بها من كل جهاتها رغبة عارمة إلى التوحد الكيميائي المتراص على شهد الشفتين مع صبها. 
إن رمزية هذه الصور البلاغية في الكناية و الاستعارة  تشير بوضوح إلى رغبة الشاعرة بالإفراغ و التعبير عن أحاسيسها الأنثوية... فذهبت تبحث عن النشوة و اللذة في الخيال.. و ما  تخيلها للآلهة الأسطورية " نيرفانا " إلا تنسيبا لرغباتها الممنوعة المحظورة... إنها صور و معاني امتزجت فيها الرغبة و الصخب امتزاجا نابصا بالإحساس الجمالي بفحوى ما تندرج عليه تبعات العناق و القبل بين العاشقين من هيام الروح و نشوتها منسابة في عالم الحب الجميل..
و مما لا شك فيه أن الشاعرة تداخلت نفسها في مشاهد الغزل متأهبة الروح و هي تثور حول مباخر الجسد... و جعلت من السجايا الأنثوية رمزا للحب و للحياة في الإطار العام للقصيدة التي موضوعها الخطايا المقدسة. 
و مما يسترعي انتباهنا في هذا المقطع الأخير من النص اعتماد الشاعرة على البعد النفسي و الفلسفي في استعراض الأفكار العميقة للرموز الشعرية اختلطت فيها النزعة الرومانسية مع النزعة الكلاسيكية إلماحا لتجانس هذه الخطايا المقدسة في النفس الأنثوية التي تحجبها غيوم الغموض عن الربيع الطارئ عفة و حياء... فعبرت الشاعرة عن هذه النفس الأنثوية وصفا بأسلوب هادئ رزين و لغة رمزية حساسة و واضحة و تحدثت بلسان مجرب خبر الحياة و عرف قوانين الوجود. 
نعم.. نجحت الشاعرة في إثارة المشاعر الأنثوية و ما بقابلها من فيض إحساس العاشق الواله المتيم بمرافئ الجسد الأنثوي... و صورت بتقنية عالية المستوى البياني جزئيات الخطايا المقدسة التي تتصارع في روح كل أنثى.. بينما ابتكارها الشعري كان منصبا على غاية ذاتية ألا و هي خلع صفات العفة و الحياء على نفسها... فبدا النص بأكمله صدى لهذه الفكرة... و ظهرت فيه الشاعرة بزيها الأسطوري المحاط بهالة القداسة و العظمة و هي تعرض رؤيتها الفلسفية الخاصة المتصلة بموضوع الخطايا المقدسة بالغة أغراضها الفنية و الشعرية في النص بلوغ المرء سن الرشد و النجابة مع اكتمال العقل و الروح معا غاية المنتهى.  
نعم.. جاء النص يعبر عن ذات الشاعرة مما افتقدت إليه في الواقع أكثر مما يعبر عن لازمات طوابير الخطايا المقدسة و يكاد يكون النص صورة صادقة عما يتزلزل في حجرات خيالها و مخزون الكبت المسجور في حنايا فؤادها.. فتحدثت المعاني و الأفكار المجردة عن أخبارها مخرجة أثقالها كما أوحى به قلبها المتيم المكبود... و عادت أرض اللاشعور العامرة بالرياحين و الأزهار قبل أن يعصف بأوراقها خريف العمر تقول: ما لها... ؟ ما لها...؟ 
و المؤشرات البيانية على أدراج النص استجابت لما انطوى عليه خيالها الشعري الواجف من الزمن مع عناصر الجمال و تحسس المتلقي لرونقها بخير يره. 

د. عبدالرزاق كيلو

Commentaires

Articles les plus consultés