إضاءة نقدية وأدبية حول قصيدة هوية حلم / د.عبد الرزاق كيلو ..سوريا
2.................... إضاءة نقدية وأدبية حول فصيدة
" هوية حلم "
للشاعرة السورية فاطمة دل
نلاحظ منذ البداية استعظام الشاعرة لهذا الحلم الذي تسلل مع الفجر... فقد تحددت بإطلاق لفظ "الحلم " و عدم تنصيبه على مرتقى خاص شروط الافتتاح في القصيدة الحديثة من حيث التأثير على السامع الذي يشغله معنى هذا الحلم و يطوف في خياله.. و لعل الفعل( تسلل) أبرز فخامة هذا الحلم
و قد اعتمدت الشاعرة على صيغة الماضي و أرادت الإعلام عما وقر في نفسها من أثر هذا الحلم و لم يكن وليد الحاضر ...إنما هو قديم.. و ما معنى " التسلل " إلا عامل حرك في نفسها ضراوة الترقب و الانتظار و القلق و الحيرة إزاء ترصد حلاوة تحققه مع عدم قدرة الإرادة في منح الخيال و العقل شرعية مثوله في النفس...فالحلم له قوة نافذة في اللاشعور تشبه قوة نفوذ الضياء والنور إذا ما شقت الشمس جبين الصباح و فيه من السكينة و الطمأنينة ما يدغدغ حنايا الصدر ابتهاجا كما فيه من الجمال المعنوي المطرب ما يشبه الطبيعي المشرق على حاشية أجنحة الفراشات الموسومة
بالخطوط و البقع الجميلة التي لا تمل العيون من النظر إليها و التمتع بفتنتنها.. فالحلم له من الدقة النفسية و الوجدانية كدقة جناحي فراشة وشفافيتهما و هو يعرش على هيولى الروح و يثير حرارة الوجدان لذة و انتشاء عند التأمل و الانتظار...!
فالشاعرة...تهب الحلم صفات فاعلية تلتهب النفوس شوقا إلى تحققها.. و خاصة هذا الحلم الذي تفرده الشاعرة متربعا على عرش أحلامها جميعا و تعلقه على ضفاف الأمل و تضرع إلى السماء بأكف المنى رغبة في تحققه.
رسمته الشاعرة في هذه الصور البلاغية الاستعارية و التشبيهية لتستوي صورته في الخيال مع عالم الحب المشرق بالأمل الذي به تثبت قيمة الوجود الإنساني في الحياة.
فكلاسيكية الصور الفنية الشعرية في مقدمة النص تشير بوضوح إلى قيمة و رفعة هذا الحلم الإنساني الذي تطلقه الشاعرة و تصفه بخيالها الخصب كنون من النور معلقة على أطراف ذوائب الشعر أو كظل جناحي فراشة موشى برحيق الصور الجميلة لتحقيق الانسجام بين مخيلة الشاعرة و مخيلة السامع.. و هذا ما يسمى بتطعيم المعاني الشعرية بالصور الانطباعية اللاشعورية تؤدي مهمة التوافق في الذائقة الجمالية الحسية بين الشاعر و المتلقي.
فالشاعرة... تمكنت من إطلاق لفظ الحلم إثارة حركة الانفعالات و العواطف الإنسانية في نفس المتلقي كونها تتحدث عن حلم يراود نفس كل امرئ عاقل... كما أن آلام الحسرات التي تثيرها الخيبة من هذا الحلم..إنما هي قاسم مشترك بين الناس جميعا... تجعلهم يندفعون ويلوذون بالغيب يفكرون في سر أمل تحقق حلمهم.. أو أن يفلت من بين أيديهم ذلك الشعور المطمئن بنور أمل يأتي على أجنحة الغيب المرتقب.
إن مقدرة الشاعرة الجدلية نلمحها هنا باتباع الأسلوب العقلي في إقرار فكرة " الخيبة" و محوها بفكرة مقابلة لها... الأمل الهائم في أفق النفس كما يهيم السنونو خافقا بجناحيه في أفق السماء .. و كذلك كنايتها عن الأحلام( أحلام البنفسج )
و هي كناية عن الأمل الذي فيه شفافية الحزن الأنثوي الرقيق بلونه الغامق المائل إلى العتمة كالربيع الشاحب المتساقطة زهوره في وهاد قاحلة من العشب الأخضر..ثم يتوزع موقف الشاعرة من هذا الحلم و هي تقابل بين الماضي والحاضر بما يحمله اسم الإشارة من دلالة و رمزية الفكرة و المعنى ( هنالك ) ضمن السياق اللفظي موطدة فيه قصة الشقاء الإنساني و عدم فاعلية الشعارات البراقة في بلاد و مدن فاقت غطرسة مدنيتها و حضارتها المزيفة على الحلم البشري العام بتحقيق الخير و السعادة للبشر.. فالمعاني و الأفكار في صلب النص يستدعي بعضها بعضا مستندة فيها الشاعرة على إحساسها الإنساني العام بهذا الحلم الذي يصبح هشيما تذروه الرياح متمردا على الزمان والمكان..و هنا يظهر بوضوح رؤية الشاعرة و فلسفتها من هذا الحلم و علاقته بالواقع.. و تكاد هنا فخامة الألفاظ و جزالتها و العبارات المثيرة للوجدان و العاطفة تؤدي وظيفة الحفاظ على الغرض العام للقصيدة و تخلق توازنا منسجما بين المقدمة التي بدأتها الشاعرة بالمعاني الشجية التي تناسب الاحتفاء بالأمل و بين الصلب الذي أسهبت فيه في تصوير معاني الخيبة في التعبير عن ضياع الحلم لهويته العاربة عن تحققه الواقعي ماضيا و حاضرا و مستقبلا.
هناك فوق الأرصفة الباردة
أموت وأحيا
وأتجرع السقم
أنا المبعثر فوق نصال الألم
سيزيف أنا
يجر الحجر
يغشاه الضباب
انتظاري العبثي
كانتظار غودو
للمحال
أو كبحار مهزوم
أعود بملح الخسارات
أو كخيبة المخدوع
بغناء ( السيرينات)
وكل شيء بين أضواء المدن الكبيرة
يغدو ككذبة في نيسان
يحترق حطب القلب
في هسيس الليل
ويبقى رماد الانكسار
ينحب القصب
يبكي الصفصاف
جرحا لا يبرأ
وجعاً لايهدأ
وصدعاً لا يرأب
أنا القادم من التراب
بلون واسم وعمر وبقدر
كالحلم
هويته السراب
و هنا يبدو... أثر الثقافة الأوربية التي تنطوي عليها معاني و أفكار الشاعرة و تتخذ فيها بعدا رمزيا في تجريد فكرة الأسى و اللوعة و المعاناة ثم الخيبة فيدخل النص في غضون الندب و التفجع و الشهود على المأساة..
الإنسانية..و يتضح موقف الشاعرة الجازم من الحلم الذي تمنحه هوية اليباب و السراب بعد أن تعطلت ملابسات الحلم و إرهاصاته و ماتت و احترقت آماله...
نعم... الشاعرة لا تتوجع على نفسها بقدر ما تتوجع على الإنسانية جمعاء.. و تتجرع كأس الألم على مصير المعذبين في الأرض كل زمان ومكان.. و تقف موقفا فلسفيا من الوجود فتشبع معانيها بتضمين أسطورة سيزيف بعد أن حلت عليه لعنة الآلهة( و هي رمز للعنة الزمن و العصر الذي عاش فيه) و هو يجر الحجر إلى أعلى الجبل فما تلبث أن تنزلق و تعود إلى مكانها في أسفل الجبل.. فرؤيتها للوجود الإنساني في بلاد البرد و الضباب يشوبها التشاؤم و العبث..فالأشياء عندها تتساوى( هناك ) و هي عديمة الجدوى و قليلة النفع الإنساني... و لذا فانتظار " غودو" غير مجدٍ..فهي تعجب ممن يرغب بدوام العيش هناك..! فشكها المحير صادر عن فلسفة وجودية خاصة و تأمل ذاتي يستمد أصوله من محصولها المعرفي للثقافة المتشعبة التي تستطيفها ذاكرتها و خاصة تلك الأفكار و الصور المستقاة من الثقافة الأوربية القديمة و ثقافة العصور الوسطى( البحار... السيرينات...الخ )
إن تكرارها للصور و الأفكار المجردة التي تعكس معاني الخيبة و الانكسار و انحسار الحلم الخادع عن أضواء المدن التي تشبه كذبة نيسان.. تحرص الشاعرة على تكرارها من أجل التأكيد على وحدة الدلالة من الغرض العام للنص و أكثرت من الإتيان من الفعل المضارع في صلب النص " يغدو _ يبقى _ يحترق _ يغيب..." لتشير بدثوره على استمرارية الحدث لفعل الكذب الحضاري المعاصر الخادع.. و كأنها تريد هجو هذه الحضارة المزيفة الخالية من الحنان و الشفقة و العطف و التكامل الإنساني... هذه الحضارة التي جعلت من الإنسان الذي هو غاية الوجود أدنى قيمة بين الأحياء جميعا
إذ يتعين عليه أن يكابد الشقاء و العذاب ليشعر بقيمة وجوده الإنساني و يستلذ بالسعادة و الفضيلة في سنين عمره و ليتحقف حلمه بالسكينة و الإطمئنان..و لكن لم يبق أمام وجوده للخروج من حالة اليأس إلى اليأس الخالص ذاته و " هوية السراب " هي النتيجة القسرية للحلم الإنساني.. و صحيح كما يقول الرومانسيون : لا أحد يستطيع أن يجرد أحدا من حلمه...! فإنه يصح عقلا و منطقا أن نقول على ضوء مستجدات حياتنا المعاصرة العارية من مسوغاتها الإنسانية الراقية: يجب تعرية احتمال من كل انتظار .. و يبقى على رأي الشاعرة المستقبل الذي ينبغي إعطاؤه معنى.. ضمن صندوق مغلق يشبه إلى حد بعيد مربع الموت و الرعب..
و من الناحية الفكرية نجد الشاعرة ينطوي نصها على أدب ما بعد الحرب العالمية الأولى في تشخيص المفهوم المأسوي للوجود البشري..أدب فيكتور هيجو.. و إيميل زولا.. و يستدعي أعمالهم الأدبية العظيمة التي تصور أن غريزتنا في البقاء و الخلود.. أشد نفوذا من عقلنا.. فنحن رغم مآسينا نستمر في العمل و النشاط كنملات تضع الخلود نصب أعينها
و يصح أخيرا أن نقول: النص تسخر له الشاعرة جميع طاقاتها المعرفية في لحظات نشوة مأسوية مباغتة و عفوية تنير من خلالها ميادين المطلق الشاسعة... و إيصال رسالة للقارئ مفادها.. ما يقوله دوستويفسكي في إحدى رواياته بلسان كيريلوف .. " أؤمن بالحياة الخالدة في هذا العالم...فهناك لحظات يتوقف فيها الزمن فجأة لكي يحل الخلود..."
فلماذا نبحث عن المطلق خارج الزمن لنشعر أن للحياة معنى مطلقا... فالألم لا يعانيه إلا صاحبه.. و الأمل في ظل القيم الإنسانية السائدة.. سرعان ما يتشوه و يضعف على نحو بائس.
و في نهاية المطاف أجد من الضرورة الإبلاغ عن نزعة المدرسة السريالية المشرقية في الأدب التي لمحت النص بخصائصها و أسلوبها الشاعرة في نصها هذا بأسلوب معزز بالحكمة و توطيد معاني الفضيلة و الخير في أفكارها المجردة.. و هي نزعة كشفت فيها عن قدراتها في صياغة الإلهامات الطبيعية المقترنة في الوجدان و الذاكرة ضمن عملية إبداعها الأدبي و الشعري... فالظاهر للبصر و الكامن في الوجدان يقدمان خيوط السدى للحمة القصيدة المنسجمة فكرا و عاطفة.
د. عبدالرزاق كيلو
( 2/2 )
Commentaires
Enregistrer un commentaire