(من ذاكرتي المعرفية/السيميائية)/الأديب باسم الفضلي
{ من ذاكرتي المعرفية / السيميائية }
كان من ثمار تطوّرالدرس اللساني الحديث ظهور مناهج وتيارات نقدية كثيرة مثل البنيوية والأسلوبية والسيميائية . ومثلما سعت البنيوية إلى تقديم قراءات منغلقة للخطابات الأدبية بغية تأصيل نماذج بنائية محددة ، فقد سعت السيميائية إلى تطوير طرائق منفتحة للقراة ، متخطية جدار اللغة ومنطلقة نحو تأسيس نظرية في ( علم الأدب ) والانطلاق من ثمَّ إلى الاهتمام بالخطابات الأخرى كالخطاب الفلسفي والديني ، بوصفها أنظمة فكرية تخفي خلفها سيلاً من المعاني التي يجب القبض عليها . وينطلق السيميائيون من رؤية ترى أن المشكلة اللغوية هي أولاً وقيل كل شيء مشكلة ( سيميائية ) وآية ذلك أن اللغة تنتمي إلى مجموعة ( الأنظمة الرمزية ) التي تشكل الثقافة كالكتابة والفـن والأساطيـر والسلوك والطقــوس .. وبسبب هذا الاهتمام أطلق السيميائيون العنان لحرية القراءة بحثاً عن النسق المتخفّي وراء الإشارات أو الأنظمة الدلالية للشفرات والعلامات ورغبة في كشف طرق إنتاج المعنى .
والسيميائية أو السيمائية أو السيميولوجيا أو السيميوطيقا أو علم الإشارة أو علم العلامات أو علم الأدلة .. إلخ ، ترجمات وتعريبات تطول لعلم واحد
وقد أسهم في وجود هذا العلم عدد من العلماء والفلاسفة والنقاد .
لقد بشر دي سوسير بمولد السيميولوجيا وحدّد موضوعها بكل علامة دالة، وجعل اللغة جزءاً من هذه العلامة الدالة ، إذ عد علم اللغة جزءاً من علم السيميولوجيا العام . يقول : " اللغة نظام إشاري يعبر عن الأفكار .. وبذلك يمكن مقارنته بالنظام الكتابي وبالنظام الألفبائي للصم والبكم وبالنظام الإشاري النقشي.. إن العلم الذي يدرس حياة الإشارة في مجتمع من المجتمعات يمكن أن يكون جزءاً من علم النفس الاجتماعي ، وبهذا سوف أدعو هذا العلم سيميولوجيا .
إذن ، فاللغة ، وفق تعريف سوسير ، نظام من العلامات تعبر عن الأفكار مثلها مثل أنظمة أخرى تشبهها ، كأبجدية الصم ، والإشارات العسكرية وغيرها، ولكن اللغة هي أهم هذه الأنظمة العلاماتية .
إن السيميولوجيا تنطلق من ثم من " نظام جديد للوقائع " يعدُّ اللسان نسق دلائل معبرة عن أفكار ، لتكتسب من ثم وظيفة رمزية داخل المجتمعات المختلفة. ولما كانت هذه الوقائع تشتمل داخلها على عدة أصناف من الدلائل ، فإن الدلائل اللسانية ليست سوى فرع من هذا العلم العام ، وقد ذهب بارت إلى أن السيميولوجيا هي علم الدلائل ، وأنها استمدت مفاهيمها من اللسانيات . حيث قال : " إن اللسانيات ليست فرعاً ، ولو كان مميزاً ، من علم الدلائل ، بل السيميولوجيا هي التي تشكل فرعاً من اللسانيات " . وذهب إلى أن إحدى القدرات التي ينطوي عليها الأدب هي قدرته السيميولوجية ، وان النص ثمرة اللغة ، ويعني به نسيج الدلائل والعلامات التي تشكل العمل الأدبي ، ويرى أن على اللغة أن تحارب داخل اللغة ، بفعل الـدور الذي تقوم به الكلمـات وتشكـل هي مسرحـه . وربط ( إنتاج المعنى / الدلالة ) باللغة ؛ لأن إنتاج المعنى أصلاً من اللغة ، ولا يمكن للسيميولوجيا إلا أن تلجأ إلى اللغة للوقوف على دلالة الأشياء ، وبذا فاللغة تعد نموذجاً للسيميولوجيا لأنها تمدنا بالمعاني والمدلولات .و يقول : " إن قدرات التحرر التي ينطوي عليها الأدب لا تتوقف على الشخص المدني ، ولا على الالتزام السياسي للكاتب .. كما أنها لا تتوقف على المحتوى المذهبي لعمله ، وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة " . ، وفي سياق آخر يميّز بارت بين العلم والكتابة الأدبية ، فيرى أن الكتابة توجد حيثما يكون للغة نكهة فتجده يصف الأدب بأنه واقعي وغير واقعي في آن . فهو واقعي ؛ لأنه ينشغل بتمثيل شيء ما هو الواقع ، وغير واقعي ؛ لأنه لا يكتفي بتمثيل هذا الواقع، وإنما يسعى دائما إلى تصوير المستحيل، ويعتقد أن الرغبة في المستحيل أمرٌ معقول.
وبهذا فإن بارت يحاول تحرير النص وتحرير مخيلة قارئه ، وفتح المجال أمام تخصيب الدلالة ، فحين يصف الأثر الأدبي بإزاء النص تجده يصف الأول بأنه ( في أحسن الأحوال ) رمزي بدرجة وضيعة ، بينما النص تمددي وتعددي . تمددي لأن مجاله هو مجال الدال بإحالته إلى فكرة اللعب والتوليد الدائم للدال داخل مجال النص ، وفق حركة تسلسلية للتداخل والتغير . إن المنطق الذي يتحكم في النص ليس منطقاً تفهمياً ( يحدد مقصد الأثر وما يريد " أن يقوله " ) وإنما هو منطق كنايات ، أو منطق الإفصاح عن الطاقة الرمزية . أما النص التعددي ، فهو ليس ما ينطوي على معان عدة فحسب ، بل وما يحقق أيضاً تعدد المعنى ذاته . ليس النص مجموعة معان ، وإنما هو مجازٌ وانتقال ، ولا يمكن أن يخضع لتأويل ولو كان حراًّ ، وإنما لتفجير وتشتيت . لقد خلص بارت إلى مفهـوم "الدلائلية " ، إذا أضاف إلى مفهوم الدليل ، الذي شرحه سوسير بأنه يتألف من ( دال ومدلول ) ، تميّزه على صعيد الماهيات . فاللباس مثلاً ، وفق بارت ، يستخدم للتغطية ، والطعام للتغذية ، إلا أن ذلك لا يمنع أن يدلا على شىء آخر ، كذلك المعطف الشتوي يستخدم للوقاية من المطر ، ولكن لا يمنع أن يُنبىء المعطف عن حالة مناخية .
وهناك عدة اتجاهات اخرى للسميائية منها :
ـ سيميائية خاصة بالقراءة الشعرية ، تكشف عن العلاقة الجدلية بين النص والقارىء حيث تذهب الى ان هناك مرحلتين من مراحل القراءة : القراءة الاستكشافية ، والقراءة الاسترجاعية . يتم في الاولى فك شفرة القصيدة ، أما المرحلة الثانية فتجري فيها عملية التفسير / التأويل .
ـ سيميائية الثقافة : التي تعد الظواهر الثقافية موضوعات تواصلية وأنساقاً دلالية .وربطت بين اللغة والمستويات الثقافية والاجتماعية والآيديولوجية ، وحددت أن العلاقة تتألف من : دال ـ مدلول ـ مرجع ثقافي .
ـ سيمياء التواصل : وتذهب ان الدلالة تتكون من وحدة ثلاثية المبنى :
الدال ـ المدلول ـ القصد.، فالتواصل مشروط بالقصدية وإرادة المتكلم في التأثير على الغير . ولسيمياء التواصل محوران :
أ – محور التواصل : وهو إما تواصل لساني كما في عملية التواصل بين البشر بالفعل الكلامي ، أو غير لساني كما في الملصقات الدعائية وإشارات المرور .. الخ.
ب- محور العلامة : ويتلخص في أن الدال والمدلول يشكلان علامة ، وتصنف العلامة هنا في أربعة أصناف :
1-الإشارة : كما في العرافة والكهانة وأعراض الأمراض والبصمات ، وتتميز بأنها حاضرة مدركة دون أن تحتاج لشرح أو تعريف .
2ـ المؤشر : وهو يكافئ الاإشارة الاصطناعية ، لا يؤدي المهمة المنوطة به إلا حيث يوجد المتلقي لها .
3- الأيقون : علامة تدل على شيء تجمعه إلى شيء آخر علاقة المماثلة.
4- الرمز : وهو ( علامة العلامة ) ، ما يدل على شىء ليس له وجه أيقوني، كالخوف، والفرح، والعدل ، وكل الشعارات والصفات.
ولقد شكلت كل هذه الاتجاهات السيميائية روافد أصيلـة لبنـاء (قراءة/ قراءات ) سيميائية ليس للأدب فحسب ، بل لقراءة أنظمة علامية وإشارية أخرى ، فبالإضافة إلى قراءة الأدب : شعراً ورواية ومسرحاً ، والفن : رسماً وموسيقى وسينما ، فقد دخلت السيمياء كل دوائر الخطاب، وأصّلت لقراءة الخطابات الفلسفية والدينية والفكرية . وقد امتازت الدراسات السيميائية للأدب بحرصها على فهم العلاقة الأدبية في مستوى العلاقة الجدلية بين النص الأدبي والمجالات الثقافية والآيديولوجية ببنيتها الاقتصادية والاجتماعية ، وفي مستوى النص الأدبي نفسه. ، وإذا كانت
البنيوية قد سعت إلى تقديم قراءات منغلقة للخطابات الأدبية سعياً إلى تأصيل بنائية محددة تقوم على النسق اللغوي ، أو النموذج اللغوي ( لغة / كلام - تزامن / تعاقب – أفقي / عمودي ..)، اعتقاداً منها بأن الخطابات الأدبية تشكل سننها الخاصة بمعزل عن قارئها ، فإن السيميائيين قد أبطلوا هذا الزعم وطوّروا طرائق منفتحة للقراءة ، ورفضوا فكرة وجود ارتباط ثابت بين الدال والمدلول ، وقدّموا تصوّرهم على أن الإشارات (تعوم ) سابحة لتغري المدلولات إليها لتنبثق معها وتصبح جميعاً (دوالاً ) أخرى ثانوية متضاعفة لتجلب إليها مدلولات مركبة . وبذلك حرّروا الكلمة وأطلقوا لها العنان لتكون ( إشارة حرة ) ؛ وهي تمثل حالة ( حضور ) ، في حين يمثل المدلول حالة (غياب ) معتمداً على ذهن المتلقي لإحضاره إلى دنيا الإشارة . وهذه العلاقة لا تتأسس إلا بفعل المتلقي العارف الذي يؤسس هذه العلاقة ويقيمها بين الدال والمدلول، وهي ما يسمى بالدلالة .
إن القراءة السيميائية لا تلغي القراءات السابقة عليها ، وإن كانت تفيد منها وتحتويها ، فهي بتركيزها على قراءة أعماق الدال ، بحثاً عن الأنظمة الدلالية للشفرات والعلامات وطرق إنتاج المعنى ، لتفتح المجال واسعاً لفعالية القراءة ، وحفز الطاقة التخييلية لدى القارىء ، ليشارك بفكره وثقافته في إبداع النص من خلال كشف مخبوئه ، وتفتيق دلالاته .
ـ باسم العراقي ـ
Commentaires
Enregistrer un commentaire