في الحداثة القرائية / الأديب باسم الفضلي





 في الحداثة القرائية :


لم يعد هناك نص مغلق ...، فبمجرد ان يتم المؤلف كتابة نصه ، يغدو هذا النص ( مولوداً ) حراً مستقلاً عن إرادة وقصدية منتجِهِ ( المؤلف )، وما ان يتصل به القاريء بعملية القراءة تتحول الجدلية من ( مؤلف / نص ) الى ( نص / قاريء ) ، اي ان النص ينتقل من كونه ( منتَج ) الى ( منتِج ) .. ويغدو مالكاً لأسراره ودلالاته بعيداً عن رؤى منتِجه .. فالمؤلف حينما يشرع في انتاج نصه ، وفق مخططٍ مكتملٍ في ذهنه مسبقاً ، ينطلق من النقطة ــ أ ــ الى النقطة ــ ي ــ بقصديةٍ مرسومة الغايات ، لتحقيق ( هدف / فكرة ) محددةٍ ، يريدها المؤلف ان تفعل ( فِعلَهُ ) في عقلية المتلقي ، ومع آخر كلمةٍ يسطّرها فيه يكون قد اكمل إصدار ( شهادة ميلاد ) ذلك النص ، وأعلن إنسلاخه عن ( رَحِمِ ) أفكاره واعتقه في عالم الآخر ( القاريء ) الواسع المائج بالمتناقضات والصراعات ( الفكرية / الشعورية ) المتعددة الرؤى ، والمتقاطعة احيانا حد التناحر . ويطفق النص يتلمس طريق ( حياته / موته ) في عالمه الجديد ذاك ، بما ينطوي عليه ( اقصد النص ) من عناصر ( البقاء / الفناء ) ، ومع انتهاء دور المؤلف ، يبدأ دور القاريء حين يقوم بالتعايش ( التفاعل القرائي ) مع هذا المولود المنقطع عن مُنجبِهِ ، حتى اذا قطع معه شوطاً نجده إمّا متآلفاً او متنافراً معه ولكل تفسيره ؛ فالنص باعتباره ( فعل ذو قصد ) يستمد مقومات ( وجوده الأول ) من بُنى وعي المؤلف الآيديولوجية والسيوسيولوجية التاريخانية وحتى الميثولوجية ، ثم يواصل حياته ( وجوده الثاني ) في وعي القاريء ، فيعيش او يموت في هذا الوعي ، حسب طبوغرافيته الثقافية العامة ، فإذا ماكان وعياً متحركاً قابلاً للامتداد والإتساع بآفاقه ( المعرفية / الانفعالية ) بفعل ما يمارسه عليه النص من ( تحفيز / استفزاز ) ، فإنه سيمد مجسّاته وشعيراته الحسية المفكِّرة الى اعماق النص مفككاً مفاهيمه ، ومشرِّحاً أسرار دلالاته و ( شيفراته ) كي يقف على حقيقة معانيه ومراميه ومقاصد اشاراته ورموزه ، في هذه الحالة التفاعلية بين ( وعي القاريء والنص ) سيعيش هذا المولود وينمو بشكل صحي ويتشعب ( وجوده ) في عقل متلقيه بهذه الدرجة او تلك ( حسب درجة ثقافة القاريء ) ، وبشكل تعميقي متبادل في رؤى كل منهما. فالنص {{ جملة شيفرات واشارات ( اي دوال / مدلولات ) متموضعة اجتماعياً ( اي انها حاملة لصفات وطباع مجتمعها الذي يمثل الحضن الاول لنشأة المؤلف الثقافية ) في سياق زمني ( اي انها ذات سمة تاريخية ) لتعبِّرَ عن افكار ترتدي شكلاً (1)، يقوم على تفاعل ووحدة عناصر العمل }} ، ويبحث عن تفسيره ودلالته في عقلية القاريء ليؤدي ( معنىً ما .. ) يتناسب مع درجة ثقافة و( فهم ) ذلك القاريء ويتحقق ذلك المعنى حينما يقوم القاريء بفعل التحاور مع النص ، وهذا يتضمن إسقاطاته ( النفس / فكرية ) التي تصدر من عندياته المعرفية والانفعالية بجانب تصوراته الذهنية عن الاشياء ، ان ذلك الفعل الذي يقوم به القاريء على النص للخروج بتأويلاته الخاصة يه وفهمه الشخصي عنه ، قد تؤدي الى تكوين او تشكيل معنى آخر مغاير للمعنى الذي اراده المؤلف ، وربما تقاطع معه ، وهنا سنحصل على ( تعدد القراءات والتأويلات / طبقات المعاني ) .. ويؤكد آيسر ( 2 ) { ان القراءة علاقة جدلية } ويعني انها تحاورية بين ( عقل القاريء ) وافكار وبُنية النص وصولا لـ ( مفهوم / معنى) يكونه القاريء عن ذلك النص .


اما ان كان وعي القاريء منغلقاً ( ستاتيكياً ) فانه سيتعامل مع النص باعتباره ( شيء ) لايتحدد موقفه منه ( أي من معناه ) إلّا من خلال قيامه بإجراء ( مطابقة / مقارنة ــ شكلية ومضمونية ) بينه وبين ( معيار المعاني ) المغروز سلفاً في احشاء عقله وتلافيف وعيه بإعتبار ان ذلك المعيار هو الاساس الاوحد للمعاني والافكار ( المقبولة / المرفوضة ) ،فالقاريء هنا مسكون بـ ( آخر او آخرون ) يحددون له ما يتقبله او يرفضه من افكار او رؤى عن هذا النص او ذاك .. ومع هكذا قاريء لن تحصل حالة ( التعايش ) بينه وبين النص ، لان المعادلة القرائية ستصبح ( نص منسلخ عن مؤلفه ) في مواجهة وعي قاريء ( ماقبلي المعيار العقلي والقياسات الفَهمية ذات الثبات الأصولي المحدد التأويل ) .. وهذا سيؤدي الى ( القطيعة / الرفض ) من قبل ذلك القاريء للنص ..


ان موقف القاريء من النص هو موقف فردي نسبي ، مبنٍ على اساس ( حرية / لاحرية ) الوعي في التعاطي مع المنتج الادبي باعتباره ( وجوداً ) ملموساً يُقدِّم نفسه للقاريء كــ ( آخر ) يطلب التحاور معه بعيداً عن ( مفاهيم ) ورؤى منتجه ( المؤلف ) ، وبالتالي تغدو القراءة آلية انتقال من قصد اول ( معنى المؤلف ) الى قصد ثانٍ ( معنى يكونه القاريء ) والذي يتوصل اليه وفق الميكانيكية العقلية التالية :


{ تخيل ، تأمل ، اسقاط نفس فكري ، ثم تفكير يولد ــ معنى ــ دون وصاية من مؤلف على قاريء، ودون مزاجية من قاريء على نص } واساس كل هذا تفاعل حر واعٍ منتج للافكار والمعاني .


يذهب تودوروف ( 3 ) الى القول ( ان كل عمل تُعاد كتابته من طرف قاريء ) ..، فالقاريء طرف اساس في مَعنية النص ( اي اعطاء معنى للنص ) ، بل انه يمكن ان يشارك بتاليف النص متى ما امتلك الوعي الحر القادر على التفاعل التحاوري مع النص دون انشداد لقياسات معيارية ، واحكام عقلية ماقبلية تحجمه وتغلق امامه فضاءات التأمل الحر والقراءات الذاتوية المستندة الى حريته بالفهم وتكوين الافكار والمعاني .. فالقراءة في ابسط تعريف لها هي دمج الوعي بمجريات النص على اساس التفاعل بين (فعل) و( بنية ) في اطار القصد ( اي المعنى المنشود والافكار المستخلصة من النص ) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هوامش :


1 ــ يحدد رولان بارت الشكل الادبي على انه ( تشخيص لاحاسيس المؤلف الملتصقة بتجاويف الذات وبأعماق الموضوع ) / يراجع كتابه : درجة صفر للكتابة


2 ــ آيسر : من كبار المنظرين في موضوعة المعنى الادبي


3 ــ تودوروف : من اكبر نقاد الادب الروس في القرن العشرين / يراجع كتابه : كتاب الشعرية

Commentaires

Articles les plus consultés