اغتيال هوية / أحمد علي صدقي / المغرب
اغتيال هوية
أعرض عن التدريس، وهام على وجهه.. مشى أياما وليالي. ذات صباح، وجد نفسه متوغلا وسط أدغال غابة.. رأى نفرا من الناس.. اقترب منهم.. كان بيد كل واحد منهم ورقة قد انهمك في قرائتها. سأل أحدهم ماذا يفعلون. أجابه:
- منعنا من دخول المدينة لَمَّا لم نستطع الجواب على أسئلة طرحت علينا، ونحن الآن نسكن خارجها، وقد أُمِرنا بالجواب على الأسئلة قبل مجيء قوم يأخذون من وجد بخارج المدينة لخدمتهم كعبيد.. نحن مطالبون بالأجابة عن الأسئلة قبل فوات الأوان.. قال:
- وما هي هذه الأسئلة؟ قال:
- طلب منا أن نجد جمع كلمة إنسان، وامرأة وحلي ومال وموسيقى. الخ...
تنهد الرجل وقال:
- وهل وجدتم جمعا لهذه الكلمات؟ قال:
- لا. قال:
- طبعا. جمع أية كلمة عربية يحتاج إلى ذكاء، والكلمة العربية، لكي تجمع، يجب أن تعوض بأسماء أخرى ليست من جنسها. قال الرجل:
- كيف ذلك؟ قال:
- كلمة إنسان تجمع على أناس و كلمة امرأة جمعها نساء و كلمة حلي لا جمع لها، لأنها هي جمع لكل ما تتزبن به المرأة. قال:
- شكرا لك على هذه المعلومات.. أراك متفقها في اللغة..
ابتعد الرجل وهو يقول:
ويلكم غرتكم لغات أخرى وتركتم أفضل اللغات التي هي لغتكم.. منبوذين أنتم والله..
توجه نحو باب المدينة.. طرقه. برأس ذو شعر كثيف، طل رجل جميل، بزي عربي جميل ولحية كثيفة بيضاء. قال:
- ماذا تريد؟ أجاب:
- أريد الدخول للمدينة. فتح الرجل الباب على مصراعيه واقترب منه وقال:
أأنت من هؤلاء المنبوذين. قال:
- لا. أنا مسافر ضللت طريقي فوجدت نفسي هنا. قال:
- يجب عليك أن تجيب على بعض الأسئلة لكي تدخل المدينة. قال:
- إسأل. قال:
ماذا تعني لك كلمة لغة؟ أجاب:
- اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. قال:
- صدقت. لذلك لما أهمل العرب لغتهم، ما استطاعوا التعبير عن آرائهم أمام من احتقروهم. قال:
- وماذا عن النحو؟ قال:
- هو العلم الذي تعرف به الضوابط التي تحكم التراكيب اللغوية، ويترتب عليها صحة الكلام وسلامة الإعراب. قال:
- صدقت. وما دامت العرب ليس لها ضوابط لن ولم يصح كلامها ولن يسمع! هل تعرف أننا في هذه المدينة نتعامل بالكلمات فقط. فكم هو رصيدك منها؟ قال:
- قرأت كثيرا من الكتب لكن ما انتبهت يوما كم هو رصيدي من الكلمات. قال:
- ليست قراءة الكتب هي المهم ولا الهدف. الكتب مجرد معلومات، والتعامل بما قرأت واستفد هو المهم. قال:
- فسر لي كيف تتعاملون بالكلمات. قال:
- أولا اعلم أن مبيعاتنا طبيعية. ولكل بضاعة ثمنها بالكلمات. قال:
- كيف؟ قال:
- إذا أردت مثلا أن تشتري تفاحا، يسألك البائع سؤالا يتعلق بالتفاح وإن اجبت نلت فاكهتك.. قال:
- أليس لديكم نقود؟ أكُلُّ رأس مالكم في هذه المدينة هو الكلمات فقط؟ قال:
- نعم. ولكن ليست الكلمات هي الهدف، بل الثتقيف هو القصد. فبما يتردد وما يسمع من جمل، ومن كلمات تنتج دلالات و مجازات واستعارات، يتثقف هنا الجميع وبلا مدارس خصوصية.. قال:
- مثال. إن سألتك أين يوجد التفاح في الرجال؟ هل يمكنك الإجابة قال:
- وهل يوجد في الرجال تفاح؟ قال:
نعم. إن كنت لا تعرف هذا فأنت ساقط في الامتحان. قال:
أرشدني. قال:
- في كل رجل توجد خمس تفاحات، تفاحة أدم التي بعنقه، و تفاحتان في رأس كل فخد في وركه. تعجب وقال:
زدني علما. قال:
- كذلك إن أردت تينا وسألتك في أي سورة جاءت هذه الكلمة في القرآن؟ هل يمكنك الإجابة. أو سألتك ما هو طعام الفقير؟ هل تجيب؟ تنهد وقال:
- كان التين، والتين الشوكي خاصة، طعام الرجل الفقير، لكن لم يعده اليوم، بعد أن أبادوا شجرته. قال:
- صدقت. قال:
- أظن أن التعامل بالنقود أسهل من كل هذا. قال:
- هنا لا نعرف شيئا اسمه النقود. سكان هذه المدينة يتعاملون بالكلمات، ولا يدخل المدينة إلا من عنده رصيد منها. الناس هنا لاتتحدث لغة أخرى غير العربية. ومن تراهم خارج المدينة، هم يتحدثون لغات أخرى عالمية ولكن لم تغن عنهم شيئا بيننا. في هذه المدينة الكل يقرأ، والكل مثقف، والكل يتعامل بالكلمات العربية ولا شيء غيرها. قال:
- أتمنى أن أكون واحدا منكم، وأستطيع أن أتدبر أمري بينكم. قال:
- مرحبا بمثقف في مدينتنا. وتركه واختفى..
هام الرجل في المدينة وهو متباه بما يسمعه من كلمات عربية رنانة، في الدكان، وفي الشارع، وفي المنازل.. قال:
- تمنيت لو صيغ قانون في بلدي يعاقب من تعلم لغة قبل أن يتقن لغته.. وأن يعاقب كل من تعامل في إداراته بلغة غير اللغة العربية. لو قرروا هذا لقضينا على الأمية ولتعلم الجميع ولقل الجهل و غزى الدنيا المثقفون العرب...
أحمد علي صدقي/المغرب.
Commentaires
Enregistrer un commentaire