قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله في نص( قصائدنا ـاشرعة هاجرة) للأديبة جميلة مزرعاني
قراءتي النقدية في نص " قصائدتا ـأشرعة هاجرة" للأديبة جميلة مزرعاني
......................................................................................
* المقدمة: النص الحداثي كفضاء فلسفي مفتوح
في إطار الأدب الحداثي، يتجاوز النص الأدبي دوره التقليدي كوسيلة للتعبير المباشر عن الأفكار ليصبح فضاءً ديناميكياً للبحث عن المعنى. نص "أشرعة هاجرة" يتحدى القارئ عبر تفكيكه للمعاني الثابتة وإعادة تشكيل الرموز في سياق يعكس الصراع الداخلي الوجودي للفرد. من خلال استخدام لغة متجددة وصور رمزية مركبة، يطرح النص تساؤلات حول الهوية والزمن والوجود، مما يجعله نموذجاً للتعبير الحداثي المفتوح على احتمالات لا نهائية.
يتماشى النص مع تصور جاك دريدا بأن اللغة بناء متناقض تتشكل معانيها من اختلافاتها الداخلية، ومع رؤية سارتر الوجودية التي ترى الحياة صراعاً مستمراً بين الحرية الفردية وسلطان الزمن والعدم.
---
* اللغة و التفكيك اللغوي
اللغة في نص "أشرعة هاجرة" ليست أداة لنقل المعنى بقدر ما هي وسيلة لصنعه وتفكيكه في آنٍ واحد. تستخدم الأديبة تراكيب غير مألوفة تتسم بالازدواجية والغموض، مثل "أشرعة مستنفرة" و"تذيب جليد القدر". هذه التراكيب تنطوي على تناقضات داخلية تعكس رؤية النص الحداثية للمعنى باعتباره غير مستقر .
ـ التحليل التفكيكي للغة:
من خلال تفكيك النص إلى عناصره الأساسية، يمكن ملاحظة أن الكلمات نفسها مشبعة بتوترات داخلية. تعبير "أشرعة مستنفرة" يعكس فكرة دريدا عن "الاختلاف"، حيث تكتسب الأشرعة رمزيتها من التناقض بين السعي للحركة والاستنفار كدلالة على التوتر والقلق. هذا يعيد تشكيل الرموز التقليدية ويبرز عدم استقرار المعنى، كما يؤكد دريدا أن اللغة تنطوي دائمًا على فجوات تفتح أبواباً للتأويل.
ـ التجديد الدلالي:
تعبير "تذيب جليد القدر" يكسر مفهوم القدر كقوة ثابتة وغير قابلة للتغيير. الذوبان هنا يعبر عن لحظة تحدٍ وتفكك، حيث تصبح الذات الإنسانية قوة ديناميكية قادرة على مواجهة قسوة الزمن والواقع. هذا المفهوم يرتبط بفلسفات مثل الوجودية التي تعزز فكرة مقاومة العبث.
---
*الصراع بين التناقضات كجوهر للنص
النص مليء بالتوترات والتناقضات التي تعكس صراع الإنسان مع ذاته ومع محيطه، مما يضفي عليه عمقاً فلسفياً و إنسانياً.
ـ الصراع الخارجي:
تتجسد التحديات الخارجية في صور مثل "الريح والموج" التي تشير إلى قوى الطبيعة العاتية التي تواجهها الذات. تعبير "عاصفة الحنين المبتورة" يمثل الحنين كعاصفة عارمة لكنها مقطوعة المسار، في تصوير للصراع بين رغبة الذات في العودة و خسارتها لاتجاهها .
ـ الصراع الداخلي:
تتجلى التوترات الداخلية في صور مثل "الأرض القاحلة التي تنبت أشواكاً من الغيم"، حيث يتحول القفر إلى حالة من التناقض الذي يولد الجمال المؤلم. تعبير "جليد القدر المنصهر" يعكس صراع الذات مع الشعور بالعجز والقدرة على تجاوزه في آنٍ واحد .
وفقاً لرولان بارت، النص الحداثي يخلق شبكة من المعاني المفتوحة. هذه التوترات المستمرة تساهم في تفكيك وحدة الهوية والمعنى التقليدي. الصراع في النص ليس فقط بين التناقضات اللغوية، بل يتجلى أيضاً في رحلة الذات في عالم مليء بالتغيرات.
---
*الهوية والبحث عن الذات
في النص، الهوية ليست نقطة ثابتة، بل عملية مستمرة من التشكل والتفكك، حيث تعبر الذات عن حراكها المستمر بين الوعي بالواقع والبحث عن مكانها في العالم.
ـ الرموز الدالة على الهوية:
تعبيرات مثل "حواصل غمام مثخنة" و"مطر آسن" تحمل دلالات الحركية وعدم الاستقرار، مما يشير إلى رحلة الذات بحثاً عن نفسها وسط عالم يموج بالتغيرات والتحديات.
تعبير "أرواح معلّقة بين دفتي كتاب الغياب" يرمز للذات المفقودة بين الماضي والحاضر، مما يعكس رحلة البحث عن الذات في عالم لا يوفر استقراراً. أما "مطر يخفي السماء في عباءته المثقوبة"، فيبرز التناقض بين الأمل والتشظي في التجربة الإنسانية.
ـ البُعد الثقافي:
الهوية هنا ليست فردية فقط، بل تتشابك مع أبعاد ثقافية وجمعية، مما يجعل النص يحمل أصداء تجربة إنسانية أوسع. تعبير "شموخ قامات تناطح السماء رغم الغبار" يرمز إلى السعي الإنساني نحو السمو رغم المحن، ما يضفي على النص بعداً اجتماعياً وثقافياً.
---
* الوجود والعدم كموضوع مركزي
الصراع بين الوجود والعدم هو محور النص، حيث تعبر الأديبة عن ثنائية الحياة والموت من خلال صور قوية ومؤثرة.
ـ الفناء مقابل الاستمرارية:
تصوير الزمن بوصفه "قاتماً" يعكس إحساساً بالخواء، بينما "السيف المسلول" يمثل رمزية لمقاومة الذات لهذا الفناء. في الوقت ذاته، تعبير "زمن الفناء القاتم الذي يذيب أطراف النور" يعكس التوتر بين الإشراق والانطفاء.
ـ الرؤية الفلسفية للوجود:
النص يطرح رؤية فلسفية تستلهم من الوجودية، حيث تصبح الحياة صراعاً متواصلاً مع العدم. في صور مثل "سيف مسلول لكنه يذوب في وهج الغسق"، نجد انعكاساً لرؤية سارتر بأن "الوجود يسبق الماهية"، حيث تبرز الصورة كفاح الإنسان لإثبات وجوده رغم عبثية الزمن وقوى العدم التي تسعى لمحو أي معنى مستدام.
---
* الرمزية والتكثيف الدلالي:
النص يعج بالرموز التي تتداخل لتخلق طبقات متعددة من المعنى، مما يفتح الباب أمام تأويلات مختلفة.
ـ الرموز الطبيعية:
مثل "الريح" و"الموج"، تشير إلى قوى الطبيعة التي تعكس صراع الذات مع العالم. تعبير "ريح تزرع أصداءً في الفراغ" يجعل من الريح رمزاً مزدوجاً بين الحرية والتشتت.
ـ الرموز الثقافية:
تعبير "شموخ قامات تناطح السماء" يرمز إلى السعي الإنساني للسمو رغم المعوقات. أما "أشرعة تناطح أفقاً من رماد"، فيشير إلى صراع ثقافي مع عالم متغير، حيث يصبح السعي نحو المعنى أشبه بمواجهة الفراغ.
ـ التأويلات المفتوحة:
الرمزية في النص مرنة وغير مغلقة، حيث يمكن لكل قارئ أن يجد فيه صدى لتجربته الذاتية، مما يجعل النص يتماشى مع رؤية الحداثة للنص ككيان مفتوح على التأويلات.
---
*العالم في حالة تحلل وتشظٍ :
ترسم الأديبة صورة للعالم بوصفه مكاناً في حالة انهيار دائم، حيث يتصارع مع قوى التفكك والانهيار.
ـ رؤية حداثية للعالم:
تعبير مثل "تسونامي الموت الذي يقتلع جذور الأحلام" يعبر عن قوى العدم التي تواجه الفرد وتدمر كل احتمالات الاستقرار. أما "أرض تسربت من تحت أقدامها الفصول"، فيبرز العالم ككيان متغير ومتآكل تحت وطأة الزمن. هذه الرؤية تتماشى مع إحساس الحداثة بأن العالم ليس مستقراً، بل في حالة من التغير المستمر، مما يعكس تشظي التجربة الإنسانية.
---
*الخاتمة:
كما أشرت في البداية، يكشف النص عن صراع دائم بين الثبات والتغيير، بين الأمل واليأس. هذا الصراع يظل حاضراً في كل سطر من النص.
نص "أشرعة هاجرة" يحمل القارئ في رحلة مشحونة بالعاطفة والقلق، حيث يتأرجح بين الإحساس بالعجز والقوة، وبين الانكسار والأمل. الصور المكثفة والأجواء الرمزية تترك أثراً عميقاً في النفس، و كأن القارئ يشهد صراعاً داخلياً يعكس أزمات إنسانية كونية.
النص يلامس الوجدان بلغة موشحة بالحزن والجمال، يوقظ أسئلة وجودية، ويجعل القارئ يشعر بأنه جزء من هذا الصراع المحتدم بين الحياة والعدم. إنه نص يعبر عن الشوق للمعنى وسط عالم يضج بالتغيرات و الانهيارات، ليبقى أثره عالقاً في الذاكرة ..
إنجاز القراءة : ذة فاطمة عبدالله
النص:
.......
قصائدنا - أشرعة - هاجرة
بين موج وريح أشرعة مستنفرة تستنهض الأرض القحلة تُذيب جليد القدر سحب أسرار نازفة على شِباك الأيّام. حروف ما فتئت تجهض حواصل غمام مثخنة بمطر آسن تعالج مكابح دورة الحياة كلّما تجمهرت رمال الغضب تسد آفاق الرّجاء يحين الكلام فلسفات بين عطر وأوار. أيا زمن الفناء القاتم أما آن الأوان لتسقط سيفك المسلول القاطع عن رقاب الأمنيات وخواصر الأمل؟ عن سيقان تتباهى بشموخ قامات تناطح السماء الأولى لترقى بالعبير فتبلغ السابعة؟ عن براعم تشهق بفجر النّدى عند ضفاف الرّمق؟ أما كفاك تقتصّ من صدور رحبة توّاقة لحقّها في الوجود تتنفّس حقيقة دبيبها على الأرض في رحلة عبور؟ أتساءل كيف يستعيد عابر سبيل شريعة تأصّله بجذور خطاه ؟ فيعبر خليّ القلب دون أن يتدحرج مغمى على نبضاته تحت وشاح الليل البهيم بلا ظلال يصارع بين اليأس والأمل لينتصر للحياة.من يفكّ طلاسم الأرواح تتأرجح بين هلاك ونجاة كمن في رحلة تايتنك سياحيّة يباغتها تسونامي الموت ولا خشبة خلاص .
الأديبة جميلة مزرعاني
لبنان / الجنوب
Commentaires
Enregistrer un commentaire